فصل: مطلب جواز الشوكة إلا للّه ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب جواز الشوكة إلا للّه ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا منْ أَنْفُسكُمْ} في بطلان الشرك ثم بين هذا المثل بقوله: {هَلْ لَكُمْ} أيها الأحرار المالكون للعبيد والإماء {منْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ منْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ} من المال والأنعام والأولاد وغيرها هذا استفهام على طريق النفي، أي ليس لعبيدكم شركة معكم فيما رزقناكم، وإذا كان كذلك فكيف تشركون عبيدي وخلقي معي؟ ألا تساوون أيها الحمقاء أنفسكم بربكم من هذه الحيثية؟ فكما أنكم لا تشركون عبيدكم في ملكم، فأنا لا أشرك أحدا في ملكي {فَأَنْتُمْ فيه} أي الرزق الكائن لكم {سَواء} مع عبيدكم، كلا، بل لكم خاصة.
وهذا استفهام إنكاري أي لستم في رزقكم وعبيدكم سواء، إذ ليس لهم التصرف به دون أمركم، ولا يحق لهم أن يعارضوكم في إنفاقه والتصرف فيه، مع أنهم مثلكم في البشرية ومثلكم في الكسب وهم غير مخلوقين لكم، فاذا علمتم هذا عرفتم خطأكم في إشراك خلقي بي فيما هو من خصائصي.
وهل {تَخافُونَهُمْ} أي العبيد بأن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم فيها {كَخيفَتكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تخافونهم أن يستبدوا بالتصرف بأموالكم بدون رأيكم مثل خيفتكم ممن هو من نوعكم، أي كما تخافون من الأحرار الذين مثلكم إذا كانوا شركاءكم في المال أن ينفردوا به، أو يخاف أحدكم شريكه في الميراث أن ينفرد به، أي لا حق لهم في أموركم لا في التصرف ولا في القسمة ولا في الإرث إذا متم، فإذا كنتم لا تخافون هذا من مماليككم ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف ترضون أن تكون أصنامكم التي هي من صنع أيديكم شريكة لي وتعبدونها من دوني وهي وأنتم من خلقي، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} الآية 96 من سورة الصافات {كَذلكَ} مثل هذا التفصيل الواضح {نُفَصّلُ الْآيات} ونبينها ونمثلها {لقَوْمٍ يَعْقلُونَ} 28 هذه الأمثال فيتدبرونها، ويتعظون بها، ويعون مغزاها، وينتبهون لمعناها، ونظير هذه الآية الآية 74 من سورة النحل المارة فراجعها.
واعلم أن التمثيل لتصوير المعاني المعقولة تصويرة المحسوسة إبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس ليكون غاية في الإيضاح والبيان، وفي هذه الآية إشارة إلى صحة أصل الشركة بين الناس لافتقارهم بعضهم لبعض، هذا ولما كان إعراضهم مستمر انتقل عن مجادلة إرشادهم إلى الحق لاستحالة قبولهم له فقال عز قوله: {بَل اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بشركهم ذلك {أَهْواءَهُمْ} في ضروب الإشراك {بغَيْر علْمٍ} جاهلين ما يجب عليهم معرفته ولكن يا قوم {فَمَنْ يَهْدي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} استفهام على طريق الإبعاد والتعجب أي لا أحد يقدر على هدايته {وَما لَهُمْ منْ ناصرينَ} 29 أي أن الذين يخذلهم اللّه لا أحد يمنعهم منه أو يحول بينهم وبين عذابه إذا حل بهم.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين} الذي أنت عليه يا سيد الرسل لا تمل عنه ولا تلتفت إلى غيره وتوجه إليه بكلك لا بوجهك فقط، لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهو ضرب من ضروب علم المعاني الذي يزيد الكلام رونقا وبهجة حال كونك {حَنيفًا} مائلا عن كل دين يخالفه فهو دين الحق لكونه {فطْرَتَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} أي خلقته في عالم الذر والرحم والدنيا، ولهذا قال: {لا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه} الذي خلق الناس عليه، فلا ينبغي أن يغير أو يبدّل، ولهذا أمر اللّه تعالى رسوله ليقتدي به أصحابه المؤمنون به بتعديل وتسوية الوجه والمراد منه الكل للإقبال على الدين والاهتمام بشأنه والمحافظة على أركانه وشروطه، لأنه هو أصل الأديان التي جبل اللّه خلقه الطائعين على التمسك فيه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم قال، قرأوا إن شئتم {فطرة اللّه} الآية، زاد البخاري فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسنه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء أي مستوبة لم يذهب من بدنها شيء هل تحسون بها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا {فطرة اللّه} الآية، والمراد بالفطرة العهد الذي أخذه اللّه على البشر حين خاطبهم بقوله: {أَلَسْتُ برَبّكُمْ قالُوا بَلى} الآية 172 من الأعراف في ج 1، فكل مولود بالعالم جار على ذلك الإقرار، وإن عبد غير اللّه في بداية أمره فإنه يرجع إلى عهد ربه الأزلي فيسبق عليه الكتاب فيتوب ويموت على الإيمان، راجع الآية 104 من سورة الأنبياء المارة، والآية 30 من الأعراف ج 1.
واعلم أن لا عبرة في الإيمان الفطري في أحكام الدنيا، بل العبرة في الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم فأبواه يهودانه إلخ، فمع وجود الإيمان الفطري محكوم له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول اللّه تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم.
أي حولتهم عنه، على أنهم لو تركوا وشأنهم لابد وأن يعتقوا هذا الدين الإسلامي المستحسن في العقول السليمة والأطباع المستقيمة المتهيئة لقبول الحسن ولم يعدلوا عنه ما سلموا من أفات التقليد التي ينزلون بها عن هذه الفطرة التي جبلت عليها خلقته والحجة المستقيمة إلى ما يتلقونه ممّن يتعاهدهم، وإلا فلا تغيير لما وضعه اللّه {ذلكَ} الدين القويم والفطرة المستقيمة هو {الدّينُ الْقَيّمُ} البالغ مستوى العدالة {وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ} 30 حقيقته فيزيغون عنه والأقل يعلم شيئا منه ويعرض عنه، فلا تنظر يا سيد الرسل إلى هؤلاء وقم به أنت وأصحابك حال كونكم {مُنيبينَ إلَيْه} خاضعين له راجعين إليه {وَاتَّقُوهُ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ} المفروضة عليكم في أوقاتها فهي أسّه وعماده وملاك شعاء {وَلا تَكُونُوا منَ الْمُشْركينَ} 31 به غيره {منَ الَّذينَ فَرَّقُوا دينَهُمْ} بدل من المشركين بإعادة الجار وقرىء فارقوا، وهذه الآية تقيّد آية الأنعام 159 المارة لأنها تفيد التبعيض وتلك تفيد العموم، وقدمنا ما يتعلق بمثل هذا الخطاب في الآية 64 من سورة الزمر المارة، وهؤلاء لم يتفقوا على التفريق في الدين بل تعدّوه {وَكانُوا شيَعًا} فرقا مختلفة فيه كل طائفة تشايع غيرها وإمامها الذي أضلها، ومع أنهم كلهم على ضلال في ذلك فإنهم {بما لَدَيْهمْ فَرحُونَ} 32 راضون به يحسبونه حقا لعدم تدبرهم وتفكرهم في حقيقته، راجع الآية 13 من الشورى المارة تجد ما يتعلق ببحث التفرق.
قال تعالى: {وَإذا مَسَّ النَّاسَ ضُرّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنيبينَ إلَيْه} بالدعاء والتضرع حالة كونهم خاشعين مقبلين راجعين إليه {ثُمَّ إذا أَذاقَهُمْ منْهُ رَحْمَةً إذا فَريق منْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ} 33 معه غيره في العبادة والدعاء ويظن هؤلاء الكفرة العتاة أنما تنشر عليهم شيئا من رحمتنا {ليَكْفُرُوا بما آتَيْناهُمْ} من النعم جزاء لفضلنا عليهم كلا بل قل لهم يا سيد الرسل إن اللّه لم يهملكم ولم يعطكم لتكفروا به {فَتَمَتَّعُوا} بكفركم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 34 عاقبة ذلك، وفي هذه الجملة التفات من الغيبة إلى الخطاب وتهديد ووعيد بسوء العاقبة، قال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهمْ سُلْطانًا} وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة ففيه إيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم ليطلعوا عليها {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أي ذلك البرهان المعبر عنه بسلطان {بما كانُوا به يُشْركُونَ} 35 وما هنا مصدرية، أي لم ننزل سلطانا بإشراكهم وإنما اختلقوه من أنفسهم {وَإذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} من غيث أو صحة أو ولد أو رزق، أي مطلق نعمة، كما أن الضر في الآية السابقة يطلق على أضداد هذه الرحمة ويشتمل على كل شر {فَرحُوا بها وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَة} من كل ما يسوء الإنسان {بما قَدَّمَتْ أَيْديهمْ} بسبب ما اقترفوه من السيئات {إذا هُمْ يَقْنَطُونَ} 36 يبأسون من الرحمة، بخلاف المؤمنين فإنهم إذا أصابهم خير شكروا اللّه، وإذا مسهم ضرّ صبروا رجاء رحمة اللّه بكشفه عنهم.

.مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه:

قال بعض العارفين من أهالي بلخ لصاحب له كيف حالكم يا أهل بخارى؟ قال نحن قوم إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال البلخي حال كلاب بلخ هكذا، فقال وكيف حالكم يا أهل بلخ؟ قال نحن قوم إذا وجدنا آثرنا وإذا فقدنا شكرنا.
وهؤلاء لعمري هم أهل اللّه العارفون الصادقون، وهؤلاء هم الصوفية الذين هم حقيقة صوفية لا متصوفة زماننا، فأين نحن منهم رجماك ربي رحماك، نسألك العفو والعافية والشكر على العافية، والتوفيق لما تحب من الأعمال، والستر الجميل، وإذا قدرت علينا قدرا لا تريد أن تكشفه عنا فنسألك الصبر الجميل عليه، وأن تجعلنا من القليل، ولا تكلنا إلى غيرك، ولا تؤاخذنا بما نفعل ويفعل السفهاء منا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لمَنْ يَشاءُ} من خلقه يوسعه عليهم بجهد وبغيره {وَيَقْدرُ} يضيّق على من يشاء ولو جدّ ما جد {إنَّ في ذلكَ} البسط والقبض الجاريان بمقتضى المشيئة {لَآياتٍ} دالات على حكمة المعطي {لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} 37 به ويرضون بقسمته لاعتقادهم أن ذلك مراده لا غير، وللّه در القائل:
نكد الأديب وطيب عيش الجاهل ** قد أرشداك إلى حكيم كامل

ثم نبههم اللّه تعالى إلى ما يجب أن يفعل، وما يجب أن لا يفعل، وما يجب أن يترك، فخاطب به سيد المخاطبين ليعمل به أمته فقال: {فَآت ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} من البر والصدقة والنظر والصلة، لأن هذه كلها من حق المسلم على المسلم، فكيف بالقريب الذي له حقّان حق الإسلام وحق القرابة، فالعطاء إليه يكون صدقة وصلة {وَالْمسْكينَ} الذي لا مال له ولا كسب يكفيه {وَابْنَ السَّبيل} المسافر الغريب الذي نفدت نفقته فبقي منقطعا عن أهله فينبغي لمن وسع اللّه عليه أن يعطيه ما يكفيه ويبلغه اهله.
وليعلم أن اللّه تعالى إذا بسط رزقه على عبده فإن ما ينفقه منه في سبيل البر والخير لا ينقصه بل يزيده، كما انه إذا ضيق عليه فإن التشدد بالإمساك لا يوفر عليه، وفيه قيل:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ** على الناس طرا قبل أن تنفلت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ** ولا البخل ينميها إذا هي ولت

بل عليه الشكر إذا رزق، قال تعالى: {لَئنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ} والصبر عند الضيق، قال تعالى: {وَلَئنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابي لَشَديد} الآية 7 من سورة إبراهيم المارة.
وما قيل إن هذه الآية مدنية والمراد بها الزكاة قيل لا قيمة له لأنها مكية كسورتها، واستثناؤها يحتاج إلى دليل، ولم يوجد، ومما يدل على أن المراد بها غير الزكاة الإجماع على مكيتها، والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وقد استنبط من هذه الآية الإمام أبو حنيفة وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب على قريبه الموسر، ووجه استنباطه هو أن آت أمر، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، وهو هنا معدوم، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي، وقد جاء بجانب المسكين وابن السبيل بعد القريب، ولو كان المراد الزكاة لم يقدم ذو القربى عليهما لأنهم فيها سواء.
هذا وما جاء عن أبي سعيد الخدري أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه السلام فاطمة رضي اللّه عنها فدكا لم يثبت، وينفيه ما اشتهر أنها ادعت فدكا بعد وفاة أبيها صلّى اللّه عليه وسلم بطريق الإرث، وقد ردت دعواها لقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» أو كما قال.
وقد ثبت لك أن الآية المدنية لابد من دليل يؤيد مدنيتها، وهذه الآية مكة، وحادثة فدك بالمدينة ولا يوجد ما يؤيدها.
قال تعالى: {ذلكَ} إعطاء القرابة المساكين وأبناء السبيل فيه {خَيْر} كثير لفاعله، وإنفاق المال لأمثال هؤلاء أحصن من الاستئثار للإنسان بما أتحفه اللّه به من النعم، ومنعه من الفقراء وشبههم {للَّذينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّه} بإنفاقه ويتقربون به إليه {وَأُولئكَ} المريدون وجه اللّه بصدقاتهم المعطون لها عن طيب نفس {هُمُ الْمُفْلحُونَ} 38 الفائزون بالنعيم المقيم عند اللّه القائل: {وَما آتَيْتُمْ منْ ربًا ليَرْبُوَا في أَمْوال النَّاس} بأن تأخذوا أكثر منه {فَلا يَرْبُوا عنْدَ اللَّه} بل يمحق بركته ويفنيه، وقال بعض المفسرين ما أعطيتم من الهدايا بقصد أن تعود عليكم بأكثر منها فلا يبارك لكم فيها عند اللّه لأنكم لم تبتغوا بها وجهه، فلا يثيبكم عليها، وقال إن هذا كان متعارفا عندهم قبل الإسلام، وبقي على حاله فيما بينهم، وحرّم على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وحده، واستدلوا على هذا بقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثرُ} الآية 6 من سورة المدثر المارة في ج 1، ولهذا يقولون تأتي الهدية على حمار فترجع على بعير.
وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية المذكورة من المدثر فراجعها.
وقال بعضهم المراد بالزيادة هنا الزيادة المعروفة بالمعاملة التي حرمها الشرع، لأن الآية نزلت في ربا ثقيف وقريش، وهذا القول أوفق بظاهر الآية لأنها تشير إلى مقدمات تحريم الربا على طريقة التدريج التي أشرنا إليها في المقدمة في بحث التدريج بالأحكام، كما وقع في الخمر، والمعنى الأول بعيد عن الظاهر، على أنه يبعد أن يراد بها واللّه أعلم بيوع العينة التي كانت تتعاطاها الجاهلية وبقي أثرها في زمننا هذا، المشار إليها في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي اللّه عنها في بيع العينة، وذلك أن يبيع الرجل ما يساوي خمسة بعشرة مثلا لقاء الإمهال، أو يبيعه شيئا صوريا لا حقيقة له مثل أن يقول له اشتريت مني هذه الساعة أو هذا البساط أو هذا القماش بعشرة؟ فيقول اشتريت، وقبلت، لفظا من غير تقابض أو بتقابض، ثم يقول له بعتنيه بثمانية؟ فيقول بعتكه، فيعطيه الثمن الأخير ويكتب عليه الأول، فهذه بيوع لا يبارك اللّه بها لأن ظاهرها بيع وباطنها ربا، واللّه مطلع على النيات لا تخفى عليه خافية والأمور بمقاصدها، لهذا فإنه تعالى لابد وأن يسلط على متعاطيها ما يمحق ماله ويسلب نعمته من ولد أو زوجة أو قريب أو إتلاف بحرق أو غرق أو خسارة، لأن هذا العمل حيلة على اللّه العالم بجليات الأمور وخوافيها، وقد مسخ اللّه طائفة من بني إسرائيل قردة وخنازير حينما احتالوا على صيد السمك يوم السبت راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1، وقال بعض الأئمة إن الذين يأكلون الربا بالحيلة يحشرون يوم القيامة على صور القردة والخنازير، استنباطا من قوله تعالى: {الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرّبا} الآية 276 من البقرة في ج 3، والآية المتقدمة من الأعراف، وسنأتي على توضيح هذا هناك إن شاء اللّه مع قصة أهل البيت في موضعها بالآية 60 من المائدة في ج 3 إن شاء اللّه.
وقد شاهدنا كثيرا ممن تعاطوا الربا أصالة وبالحيلة قد أفقرهم اللّه وسلب نعمتهم وأحاجهم إلى السؤال، ومنهم من تمتع بها مدة حياته ولم ينتقل ماله لأولاده، ومنهم من انتقل ماله لأولاده فاستهلكوه فيما حرم اللّه واحتاجوا إلى السؤال.
وعلى كل فإنهم لا ينتفعون بما لهم انتفاعا نافعا في الدنيا، فهم في الآخرة أشد حرمانا منه ومعاقبة عليه.
ولهذا البحث صلة أيضا في الآية 34 من سورة التوبة في ج 3، ألا فلينتبه الذين يريدون دوام نعم اللّه عليهم وانتقالها لأولادهم من ذلك، وليتعظوا بغيرهم ويتوبوا إلى ربهم قبل أن يحيق بهم عذاب الدنيا ويحيط بهم عذاب الآخرة.
قال تعالى: {وَما آتَيْتُمْ منْ زَكاةٍ} طهارة، لأن النفقة المقبولة طهارة لصاحبها من الذنوب، لأن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الزكاة، كما أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الحج، ومنها لا يكفرها إلا الهم بالمعيشة، ومنها ومنها طهرنا اللّه منها.
وقد يراد بهذه الطهارة ما يقابل {وما آتيتم من ربّا} إلخ، أي طهارة لأنفسكم بعقود البيع الصحيحة الخالية من ذلك الفضل المصرح به فيها بأنه ربا، فإنكم نثابون عليه ثواب الصدقة لما فيها من مراعاة حق المسلم، ولذلك أعقبها بقوله: {تُريدُونَ وَجْهَ اللَّه} بها وتبغون رضاءه {فَأُولئكَ} المجتنبون الحالة الأولى الفاعلون الثانية {هُمُ الْمُضْعفُونَ} 39 الذين تضاعف لهم البركة والرحمة والأجر على عملهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة واللّه يضاعف لمن يشاء بأكثر وأكثر، إذ أثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة التي يتوخونها من ذلك الربا الرجس، وقد مدحهم اللّه تعالى على فعلهم الطيب الطاهر بالإشارة الدالة على التعظيم تقديرا لفعلهم الحسن.
هذا، وإن ما ذكرته في تفسير هذه الآية لم يتطرق له أحد من المفسرين، كما هو الحال في تفسير الآية 88 من سورة النمل المارة في ج 1، ولعلها ممّا ينتقد، ولكن حسب اعتقادي أقول إنه أحسن قول في تفسيرها ولا أقول كما قال الغير فيما ينفرد به:
وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم

إذ لعله: أن يقف على ضد ما فهمته.
ولا أصمه بالشطر الأخير من قوله:
وما علي إذا ما قلت معتقدي ** إلى جهول يظن الجهل عدوانا

وأظنه إذا أنصف حبّذ ما قلته لأنه منطبق على المعنى الواقع، وبعد أن فوضت العلم فيه إلى اللّه لم يبق محل للانتقاد وغيره.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ منْ شُرَكائكُمْ مَنْ يَفْعَلُ منْ ذلكُمْ منْ شيء} كلا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا لأنهم وأوثانهم مخلوقون له {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْركُونَ} 40 أنظر رعاك اللّه إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من بلاغة عظمى في قوله من الأولى والثانية والثالثة إذ استقلت كل منها بتأكيد تعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم.